نُشر هذا المقال في الاقتصادي-الإمارات: رابط المقال
أنا مولعٌ دائماً بمجمل مشكلة التعامل مع العملات، وقيمها، وأثر تقدير هذه القيمة أو خفضها على البلدان واقتصاداتها.
ولطالما كان القلق الرئيسي الذي يطارد المصرفيين في المصارف المركزية مُنصبّاً على القيمة المناسبة لعملة بلد ما، وعلى كل ما يقدمه البلد من منتجات أو حتى خدمات. كما يمتد أثر مثل هذه المسألة الحساسة إلى كل أرجاء البلد، مؤثراً بذلك في كل شخص أودع أمواله من تلك العملة في مصرف، أو في أصول، أو حتى تحت فرشة سريره.
وهذه أحد النقاط الأساسية التي سأناقشها في مقالتي ولو على نحو جزئي. وسأعود الآن إلى السؤال الأهم: ما هي القيمة المناسبة لأية عملة؟
فلنأخذ بعين الحسبان، وبهدف التوضيح، برنامج الولايات المتحدة للتيسير الكمّي. كان الاعتقاد السائد لدى العديدين، وفي المراحل الأولى للبرنامج، يدور حول الجهود التي كانت تبذلها الولايات المتحدة في محاولة تزويد الاقتصادات، ولاسيما الناشئة منها، بالسيولة اللازمة لها لإنهاء الركود التي كانت تعاني منه لوقت طويل.
فكان من المفترض أن تتيح إعادة شراء السندات بمبلغ 85 مليار دولار شهرياً وبدعم من الاحتياطي الفيدرالي، على نحو مباشر أو غير مباشر، أن تتيح متنفَّساً بالنسبة للاقتصادات التي تعاني من أزمات خانقة. لكنها في الواقع لم تكن تقوم بذلك.
فمَع اقتراب معدلات الفائدة من الصفر في الولايات المتحدة، أصبحت عملية جذب الاستثمارات مهمة شاقة لاسيما مع تكاليف الإنتاج المنخفضة في بلدان الاقتصادات الناشئة، وخاصة في الصين.
ومن جانب آخر، لم يكن في الإمكان رفع معدلات الفائدة لكي لا يحفز ذلك الناس على الادخار، بل وجب تحفيزهم على الإنفاق والاستثمار بغية دفع عجلة الاقتصاد. ومن الناحية التقنية، كانت معدلات الفائدة سلبية إذا ما أخذنا التضخم بالحسبان.
لكن مع تسريح المزيد من الموظفين وانخفاض عدد الناس الذين ينفقون الأموال، زاد قلق أولئك القادرين على الإنفاق، من أن يفرطوا بأموالهم. وبوجود المعدلات السلبية، سيفضل الناس تخبئة نقودهم في منازلهم بدلاً من إيداعها في مصرف لا يقدم أي عائد حقيقي وهو عُرضة للإفلاس على أية حال؛ ما العمل إذاً؟
كانت الإجابة عن هذا السؤال ببرنامج التيسير الكمّي. فعندما لم تستطع الولايات المتحدة رفع المعدلات أو الحد من التضخم، ظلت بحاجة إلى طباعة الدولارات التي بدورها ستساعد على زيادة التضخم إن تم طرحها للتداول في الولايات المتحدة. عندها، لم يكن هناك أي حل سوى إيجاد طريقة لإخراج هذه الدولارات المطبوعة من السوق المحلي، وهكذا تمّ إطلاق برنامج التيسير الكمّي. وبدأت الاقتصادات الناشئة التي تتلقى الدولارات بطباعة المزيد من عملتها التي جرى ضخها في اقتصاداتها الخاصة وأدت إلى زيادة التضخم.
إن خفض قيمة العملة وزيادة الأسعار كانت ضماناً لتكون المنتجات والخدمات التي يقدمها الاقتصاد الأمريكي منافسة للاقتصادات المتضررة من برنامج التسهيل الكمّي؛ وبذلك بدأت الولايات المتحدة ببيع منتجاتها مجدداً بتصدير التضخم الناتج عن طباعة المزيد من الدولارات. أما بالنسبة للصين، وبما أن سعر اليوان مرتبط بسعر الدولار الأمريكي، فقد كان ذلك ببساطة غير مقبول للصين، ومع تلقّي المزيد من الدولارات، طبعت الصين مزيداً من اليوان.
الفرق هُنا بين الصين وغيرها من الاقتصادات الناشئة هو أنها تحكمت بتلك الأموال ولم تقم بضخها كلها في أسواقها، وإنما قامت بتعزيز احتياطها من الدولارات ومن ثمَّ قامت باستثمارها في الولايات المتحدة الذي كان إمّا من خلال صندوق الثروة السيادي للدولة SAFE، أو عن طريق الاستثمار في سندات الخزانة الأمريكية. وبذلك، لم تضمن الصين فقط مستقبلاً أفضل لأجيالها بل حمَت نفسها كذلك من التضخم الذي لا ترغب بوجوده في اقتصادها المُرتكز على التصدير دون سيطرة.
في المقابل، يقوم اقتصاز الولايات المتحدة على الاستهلاك المحلي من خلال إضعاف قيمة الدولار، كما أنّها تجعل صادراتها أرخص ثمناً ومنتجاتها المحلية أقل تكلفة نسبياً من خلال تصدير التضخم؛ وتروّج للإنفاق والاستهلاك المحلي بالمحافظة على معدلات الفائدة قريبة من الصفر.
وفي نهاية المطاف، فإن هذا يزيد من (سرعة دوران النقود) – أي عدد المرات التي ينتقل بها الدولار من يد إلى أخرى. فسرعة دوران النقود، بالإضافة إلى زيادة العرض، والتضخم الذي يجري تصديره، كل ذلك كان المزيج المثالي لتحقيق النمو في الولايات المتحدة.
وبما أنه ليس هناك أي تساؤل عن كمية الأموال التي تجري طباعتها، وبما أن الصينيين يحتفظون بأكثر من 50 بالمئة مما يمتلكونه في الولايات المتحدة بجميع الأحوال، فكافة الأطراف راضية، والأمور بخير.
في الختام، الفكرة التي أود أن أترككم معها هي: ألم يكن من الأفضل للولايات المتحدة لو قامت بسداد ديون مواطنيها بدلاً من إنقاذ المصارف والمؤسسات المالية المُفلِسة؟