هل نستهلك اليوم وندخر غداً أم العكس؟

نُشر هذا المقال في الاقتصادي-الإمارات: رابط المقال

يشكل استهلاك الأفراد ما يصل إلى 51.9% من الناتج المحلي الإجمالي في الإمارات العربية المتحدة، وفق كتاب الحقائق عن الدولة بموقع وكالة الاستخبارات الأمريكية، مما يعني بأن اقتصادنا معتمدٌ بشكلٍ كبير على الاستهلاك. وكما هو الحال مع الاستهلاك، فإن هنالك دائماً مفاضلة بين أن تستهلك اليوم أو أن تستهلك في المستقبل.‬

‫فالاستهلاك أو الإنفاق اليوم يعني بأن الادخار يجب أن يكون في المستقبل، والعكس صحيح كذلك. وكي نفهم أبعاد الاقتصاد الاستهلاكي مقابل غيره بصورة أفضل سأُشير إلى مثالين: الولايات المتحدة الأمريكية والصين.‬

‫اخترنا الولايات المتحدة الأمريكية لأن اقتصادها استهلاكي أيضاً، إذ تشكل نسبة الاستهلاك ما يزيد على 68% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما نسبة الاستهلاك في الصين تتراوح بين 35% و36% من الناتج المحلي الإجمالي.‬

‫تتوزع النسبة الباقية بنسب مختلفة ما بين الإنفاق الحكومي والاستثمارات وصافي الصادرات، ويُعرف اقتصاد الصين بأنه قائم على التصدير، بينما يُذهب تشكل الاستثمارات جزءاً كبيراً من الناتج المحلي الإجمالي.‬

‫ما المهم إذاً في ما إذا كان الاقتصاد استهلاكياً أم لا؟ وما هي الآثار المترتبة على وجود اقتصاد استهلاكي، خصوصاً إذا كانت تموله القروض؟‬

‫تكمنُ الأهمية في إما انخفاض الادخار الآن وزيادة الاستهلاك، أو انخفاض الاستهلاك فيما بعد مع ضرورة زيادة الادخار. ويفسر هذا جزئياً بأن نسبة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي للصين من الاستثمارات وهي نتيجة لارتفاع الادخار العام الذي تبلغ نسبته أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي بحسب إحصائيات البنك الدولي.

‫لابد من الإشارة هُنا بأن هذا التوجه للادخار على صعيدٍ وطني هو جزء لا يتجزأ من ثقافة المجتمع الصيني، وكيفية إدراك الأفراد والأسر الفرق بين ما يجب استهلاكه اليوم مقارنةً بما يمكن استهلاكه لاحقاً، مع فهم الفرق بين السلعة الضرورية والسلعة الكمالية. الأهمية تكمنُ في أنَّ القروض هي التي تُمَوِّل استهلاك الأفراد في دولة الإمارات بحسب ما ورد في دراسة أجراها مركز الدراسات التابع لمجلة الإيكونومست في عام 2014.

وسواء كان القرض شخصياً، أو لشراء سيارة، أو بطاقات اعتماد، حيثُ وصلت الفائدة الثابتة إلى 37.5% عام 2013، فإن البنوك جعلت اقتراض الأفراد أمراً سهلاً للغاية. ما لا يدركه الأغلبية هو أن القرض عبارة عن مُدَّخرات الفرد المستقبلية والتي تُمكُّنه البنوك من الحصول عليها اليوم مقابل تلك الفائدة التي يتم دفعها.

‫للتوضيح، فإن الاستهلاك اليوم ليس بالضرورة أمراً سيئاً إلا أنَّ ذلك منوطٌ بكيفية تمويل المال وعلى ماذا أُنفق. كما وجبت الإشارة إلى أنني لم أذكر القروض العقارية ضمن القروض التي ذكرتها آنفاً وذلك لأن هذه القروض طويلة الأجل ومرتبطة بأصول ذات أسعار محددة، فهي بالتالي تحمي مصالح الفرد وأمواله حال عدم قيام البنوك بتضخيم سعر العقار لزيادة الفائدة التي يتم تحصيلها على القرض.‬

‫وبالحديث عن القروض العقارية، هناك قروض بلا فوائد تُقدّم للمواطنين الإماراتيين من برنامج الشيخ زايد للإسكان ومؤسسات أخرى بهدف التقليل من الحاجة إلى القروض التي تقدمها البنوك.‬

‫إن استهلاك الأفراد وسيلة نموذجية لدفع عجلة الاقتصاد، لكن خروجه عن السيطرة قد يصل بالأمر إلى وضع يشبه ما حدث في اليابان عندما فشلت الحكومة اليابانية في تعويض النمو المفقود للناتج المحلي الإجمالي، بسبب انخفاض استهلاك الأفراد، بزيادة إنفاقها الحكومي. وقد قامت اليابان مؤخراً بزيادة الضريبة على الاستهلاك من 5% إلى 8% والذي لم يكن في صالح الاقتصاد حيث تجاوزن نسبة الدين العام ٢٠٠٪.‬

‫تخشى أوروبا الآن من الدخول في معضلة مماثلة بسبب الزيادة في ديون الأُسَر مما يحدُّ من استهلاكهم اليوم. حيثُ تجاوزت نسبة هذه الديون 100% في كل من إستونيا، وإسبانيا، وفرنسا، والبرتغال، وفنلندا، والسويد، والمملكة المتحدة. بينما تجاوزت 200% في كل من الدنمارك، وإيرلندا، وقبرص، وليتوانيا، ومالطا بحسب المركز الأوروبي للإحصائيات، وتُشكل الفروض ما نسبته 90% من هذه الديون.‬

‫ووفقاً لبحث أشارت إليه مجلة فوربس، يبلغ مُعدَّل دين الأسرة في الإمارات 95 ألف دولار، بينما حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أقل من نصف ذلك المبلغ.

‫من حسن الحظ أنه يمكن النجاة من التعثر في سداد الديون ولكن إلى أي مدى يكون هذا مقبولاً إذا لم تتغير ثقافة الأفراد والمجتمع لتكون نحو تخطيط مالي أفضل والاختيار بين إما الاستهلاك اليوم والادخار لاحقاً، أو الادخار اليوم وتأجيل الاستهلاك، مع اتباع نمط أفضل للادخار بشكلٍ عام ينتج عنه نمو اقتصادي مُستدام.‬

‫لا أنصحُ في هذا المقال بأن ينخفض الاستهلاك، ولكن أن يتلاءم هذا الاستهلاك مع فائض دخل الفرد الذي يمكن تخصيصه للإنفاق. وعلاوةً على ذلك، يجب أن تُوجّه حملات التوعية بعضاً من تركيزها نحو ليس فقط ادخار فائض الدخل ولكن استثماره أيضاً، هذا مع تشجيع البنوك على إنشاء صناديق استثمارية تُلبي مُتطلبات صغار المستثمرين.‬ الفكرة الأخيرة التي أريد أن أترككم معها هي: ما الذي سينتج عن نسبة استهلاك مُرتفعة تُموِّلُها القروض؟‬