نُشر هذا المقال في الاقتصادي-الإمارات: رابط المقال
طبقت مصر عملية تعويم عملتها مقابل الدولار في نوفمبر 2016. ورغم أن هذا التصرف كان بناء على طلب من “صندوق النقد الدولي” كشرط مسبق للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار، إلا أنها خطوة كان لا بد من اتخاذها عاجلاً أم آجلاً.
ولم تكن الصادرات النفطية إحدى مصادر مصر للحصول على النقد الأجنبي، فضلاً عن استمرارها بربط عملتها بالدولار، ما خلق ضغطاً كبيراً على احتياطيات النقد الأجنبي لديها.
وليس ذلك فحسب، إذ أسهم ربط العملتين غير الواقعي بتوسيع الفجوة الكبيرة أساساً بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء.
بعد 2011، انخفضت إيرادات مصر من القطاعات المولدة للدولار، وخاصة السياحة، بما معناه أن مصر لم تكن تحصل على ما يكفي من العائدات الحكومية، بينما كانت بالوقت نفسه تحافظ وتدعم سعر صرفٍ مرتفع بشكل مصطنع.
وبشكل عام، فإن موجات التعويم حول العالم لن تنحسر عما قريب، فخلال سبعينيات القرن الماضي، كان أكثر من 80% من العملات مرتبطاً بعملة أخرى، وانخفض هذا الرقم إلى أقل من 30% بحلول 2015. وهكذا، فإن هذا الاتجاه ليس بالضرورة مترابط بقوة مع تراجع أسعار النفط، أو برفع أسعار الفائدة لـ”البنك المركزي الأميركي”، بل هو اتجاه عام نحو المزيد من الحرية في السياسة النقدية، أما بالنسبة لمصر، فإن هذا الإجراء يأتي في الوقت المناسب بالنظر لوضعها الاقتصادي.
إذاً، ماذا حصل في مصر بعد التعويم؟
في بادئ الأمر تراجع الجنيه بشدة، ثم عاد ليتوازن عند سعر صرف واقعي مدفوع بقوى السوق. وأدى هذا الانخفاض إلى أمرين اثنين هما: أولاً، ارتفاع أسعار المستوردات، ومن ثم التضخم، لا سيما وأن مصر قامت بفرض رسوم أعلى على المستوردات لتشجيع الصناعة والاستهلاك المحليين، إضافة إلى ذلك، وبنتيجة الانهيار الحاصل للجنيه المصري، ارتفعت أسعار الواردات بشكل كبير ما أدى إلى تعثر مئات الشركات المصرية، الأمر الذي دفع بدوره مصر لسن تشريع إفلاس جديد لمعالجة جميع القضايا الناشئة عن ذلك. كما أرجأت مصر أيضاً تحصيل مجموعة من المستحقات على صناعة الفنادق لتتيح لهم الفرصة لإعادة تدوير الأموال والعائدات واستثمارها في أصولهم وعملياتهم.
أما الأمر الثاني الذي نتج عن انخفاض الجنيه، هو أن التعويم أدى إلى زيادة ثقة المستثمر بالاقتصاد المصري، إذ تجاوز الطلب ثلاثة أضعاف قيمة الإصدار على السندات الحكومية التي بلغت قيمتها 4 مليارات دولار، وذلك وفقاً لـمجلة “ذي إيكونوميست”.
من ناحية أخرى، اجتذبت مصر 500 مليون دولار من ألمانيا لدعم برنامجها للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.
ولم تكن الشركات وحدها التي تعاني من عملية التعويم هذه، إنما عاد الأمر بالضرر أيضاً على الأفراد وبالتالي انخفضت قوتهم الشرائية، ما أدى إلى انخفاض كبير في استهلاك المواد المستوردة، بصرف النظر عما إذا كانت رسوم الاستيراد قد زادت أم لا، والتي شهدت أيضاً ارتفاعاً فعلياً.
ورغم ذلك، فإن الجانب الإيجابي لما سبق -آخذين بعين الاعتبار التعداد السكاني المرتفع لمصر- هو ارتفاع استهلاك المنتجات المحلية.
ومن المفترض ووفقاً لـ”صندوق النقد الدولي”، أن تكيف الاقتصاد المصري مع التعويم والآثار الناجمة عنه سيستغرق من 12 إلى 24 شهراً.
وحتى ذلك الحين، يجب على مصر أن تنشط في ضمان فعالية إدارة الصندوق المستحدث لإنقاذ الشركات المتعثرة، كي يقوم بإنقاذ الشركات التي تستحق ذلك فقط. كذلك لا بد لمصر من الشروع بإنشاء مشاريع بنى تحتية ضخمة، واستخدام رأس المال الجديد هذا في وصفة مشابهة لوصفة الصين من حيث التنمية وخلق فرص العمل.
بكل الأحوال، يستلزم هذا الكثير من التخطيط حتى لا ينتهي بنا الأمر في مدن غير مأهولة، وطرق وجسور غير مستثمرة بشكل جيد.
ختاماً، إن الإجراءات الاقتصادية الأخيرة في مصر هي إجراءات متأخرة جداً، إلا أن التأخر هُنَا أفضل بكثير من عدم اتخاذ هذه القرارات الاقتصادية الصعبة، أما الآن فيجب على مصر أن تخطط بعناية كيف ستقوم بإنفاق دولاراتها، بما في ذلك تلك الوفورات الناتجة عن توقفها عن دعم سعر الصرف. ما يعني أنه ينبغي عليها لاحقاً أن تواصل بناء الثقة مع المستثمرين (الارتفاع بأربع مراتب على مؤشر سهولة ممارسة الأعمال التجارية Ease of Doing Business Index هو بداية مبشرة)، إلى جانب تشجيع ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة بمواجهة التوظيف الحكومي لتقليص الرواتب الحكومية، والاستفادة من الشراكات بين القطاعين العام والخاص بمواجهة الاستدانة في عصر أسعار الفائدة المتزايدة.
الفكرة الأخيرة التي أُريدُ أن أترككم معها هي: هل تعتقد أن مصر قادرة على تحقيق قصة نجاح اقتصادي شبيهة بقصة الصين؟