نُشر هذا المقال في الاقتصادي-الإمارات: رابط المقال
من الرائع أن تحافظ أي دولة على نموها الاقتصادي لفترة طويلة، ولكن هل يمكن أن يقال الشيء ذاته إذا كان هذا النمو معتمداً على الديون؟
ولكي نفهم الصورة بشكل أفضل، تعالوا نتمعّن في قائمة أوّل 20 بلداً من حيث نمو الناتج المحلي الإجمالي، والتي تم تحديثها آخر مرة في فبراير (شباط) 2017 من قبل الأطلس العالمي، وسأعتمد في تحليلي على خمسة عوامل – الائتمان المحلي للقطاع الخاص، واستهلاك الأسر، والمدخرات الإجمالية، وأسعار الفائدة الحقيقية، والاستثمارات الأجنبية المباشرة.
ولا بد لي من الإشارة هنا إلى أن نمو الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة للاقتصادات الأصغر حجماً مرتفع جداً بسبب الانطلاق من قاعدة منخفضة أصلاً من الناتج المحلي الإجمالي. لا يشير هذا الأمر إلى عدم إمكانية استمرار النمو وازدياده إذا تم التخطيط له وإدارته على نحو سليم.
أولاً، هناك 10 بلدان آسيوية في قائمة أول 20 دولة من حيث نمو الناتج المحلي الإجمالي. الصين والهند من بين تلك الدول، مع أن بيانات كل منهما تخبرنا قصة مختلفة.
وبالنظر إلى العوامل الخمسة المذكورة أعلاه بالنسبة للصين، فإن الشاغل الوحيد هو ارتفاع الدين المحلي الذي تفتخر به الصين، والذي يتزايد على أساس سنوي.
نمو معتمد على الديون
من بين هذه الدول العشرين، تُعد الصين الوحيدة التي تتمتع بنمو معتمد على الديون. وبفضل أعلى معدلات ادخار إجمالية -وتليها الفلبين- يمكن أن تزيد الصين من تحفيز النمو باستخدام الدين عن طريق خفض نسب الاحتياطي لديها بشكل أكبر.
كما يمكنها فعل ذلك أيضاً عن طريق خفض أسعار الفائدة، ولكن قد يزيد هذا الإجراء من اتهامات التلاعب بالعملة مما يزيد من الديون، سواء كانت ديون شركات أو أسر.
قد تستمر هذه المستويات المرتفعة للديون لبضع سنوات مع استمرار النمو بمعدل مثير للإعجاب، ولكن لا بد من تسديد الديون بطريقة أو بأخرى في نهاية المطاف، وإلا فستنتج أزمة مصرفية خطيرة تؤثر على جميع الشركاء التجاريين للصين وغيرهم من خلال الشائعات والمضاربة.
كان على حكومات بعض الدول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أن تنقذ مصارفها خلال الأزمة المالية عام 2008 من خلال الحصول على حصص فيها. لذا تتمثل الخطوة المنطقية التالية للصين في الانفتاح على الملكية الأجنبية.
تستثمر الصين أموالها بفعالية في جميع أنحاء العالم مما يمنحها تدفقات نقدية صافية إيجابية عالية يمكنها توجيهها بسهولة نحو الملكية الأجنبية لشركاتها المثقلة بالديون.
الهند والصين: قصتان متناقضتان
تقودنا النقطة السابقة إلى الهند التي تُعتبَر في وضع أفضل من الصين لأن اقتصادها أفضل توازناً نحواستهلاك الأسر، مع انخفاض دَينها المحلي بنسبة 50% عن الدين الصيني.
ومن اللافت للاهتمام أن حصة الصين من الناتج المحلي الإجمالي في العالم هي 5 أضعاف ما هو عليه في الهند، علماً أن الهند لديها معدلات فائدة أعلى من الصين، وهي تحفز على زيادة الملكية الأجنبية.
وبعبارة أخرى، يمكن للهند أن تحفز النمو من خلال عوامل متعددة، طالما أنها توازن بفعالية بين مستويات أعلى من الديون، وانخفاض مستويات الادخار، وارتفاع استهلاك الأسر.
وينبغي استثمار استثمارات أجنبية مباشرة أعلى في انتشال عدد من الناس من براثن الفقر إذا ما حافظنا على موازنة الاستهلاك المحلي ومستوى الادخار مع الحفاظ على النمو الاقتصادي على المدى الطويل.
وعلى المستوى الاقتصادي الحالي، فإن الهند مرشحة بقوة لتكرّر سيناريو الصين في الازدهار الاقتصادي.
ارتفاع مستويات الدين المحلي
تشمل البلدان الآسيوية الأخرى الواردة في القائمة بوتان وكمبوديا ولاوس وميانمار وتركمانستان وتيمور الشرقية والفلبين. ومن بين هذه البلدان، نجد أعلى مستويات للدين المحلي في بوتان وكمبوديا والفلبين، حيث تتقدمهم كمبوديا في نمو الديون. قد يكون هذا الأمر مقلقاً إذا استمر على هذا النحو، خاصة وأنها يمكن أن تجتذب المزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر وتعزز ملكية شركاتها لتحقيق نوعٍ من التوازن في نِسب الدين إلى رأس المال.
توفر معدلات الفائدة الحقيقية المرتفعة حريةً نقدية واسعة لاستخدام الديون عندما تسمح الظروف الاقتصادية العالمية والامتناع عن هذا الأمر عندما لا تسمح الظروف بذلك.
وسواء تحدثنا عن بوتان والفلبين أو عن البلدان الآسيوية الأخرى الواردة في القائمة، فإن زيادة قوة الدولار قد تضر بقدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة. ولكن ينبغي ألا ننسى أن باستطاعتها أيضاً تشجيع الاستثمارات في قطاعات صادراتها بالنظر إلى العملات الرخيصة نسبياً.
أليس من المثير للاهتمام أن تشمل قائمة أول عشرين بلداً في نمو الناتج المحلي الإجمالي 9 بلدان أفريقية؟ وهي تشاد والكونغو وجيبوتى وأثيوبيا وساحل العاج وكينيا ورواندا وتنزانيا وزامبيا.
لقد أمعنت النظر في بيانات السنوات الخمس الأخيرة، وإليكم النتيجة: تتمتع البلدان الأفريقية عموماً بدينٍ محلي منخفض بالمقارنة مع البلدان المتقدمة الأخرى، وهو ما يمكن تبريره جزئياً بارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية.
وعلى العكس من ذلك، يبدو أن نفس أسعار الفائدة الحقيقية المرتفعة تجتذب الاستثمار الأجنبي المباشر إلى بلدان مثل ساحل العاج وزامبيا.
تجدر الإشارة هنا إلى أن معدلات الفائدة المرتفعة شائعة في أفريقيا حيث تُطلب عوائد أعلى مقابل المخاطر الأعلى التي يتحملها المستثمرون. يحمل هذا الأمر إيجابيات وسلبيات بالطبع. ولكنه قبل كل شيء، ينبغي أن يؤدي إلى تشجيع الادخار، وهو أمر لا نراه يحدث في واقع الحال. إذ بالمقارنة مع البلدان الأخرى في قائمة البلدان العشرين الأولى، تتمتع البلدان الأفريقية بمعدلات ادخار أقل بكثير، حيث أن أعلى المعدلات (كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي) هي في زامبيا. ويمكن أيضاً أن نلقي باللوم هنا على الدخل المنخفض، وانخفاض الدخل المتاح للاستهلاك، بطبيعة الحال.
ما تبرير عدم وجود أي بلد من الأميركيتين أو أوروبا في القائمة؟
كي تجد تفسيراً لهذا الأمر يمكنك أن تنظر إلى أوضاعها الاقتصادية على أنها، على نطاق واسع، عكس ما سبق ذكره تماماً. إذ تُظهر تقارير فرص العمل الأميركية تحسناً شهراً بعد شهر، ومن الواضح أيضاً أن نسبة الحاصلين على فرص العمل في ألمانيا تبلغ ما يقارب 100%.
وعند النظر إلى البلدان الأخرى في الأميركيتين وأوربا، نجد أنها إما أدركت إمكانات نموها، وهكذا بدأت في الإبطاء أو أنها فاتها قطار النمو – حيث نمت بمعدل سريع جداً ثم تباطأت إلى معدل أكثر استدامة ولكن مثير للإعجاب، كما هو الحال مع الصين.
شيخوخة السكان
سيكون تحقيق النمو في أوروبا أمراً بالغ الصعوبة بالنظر إلى شيخوخة السكان. ليس ذلك فحسب، ولكن حتى عندما تحقق بعض المناطق شيئاً من النمو، تبتلعه المناطق الأخرى.
ومن المثير للاهتمام بشكل كبير أن دولة واحدة فقط من أصل العشرين بلد في تلك القائمة يرد اسمها ضمن قائمة أول عشرين دولة من حيث نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي لعام 2016 – بوتان.
وبالنسبة للصین، التي تحتل المرتبة الثانية من حيث الناتج المحلي الإجمالي في جمیع أنحاء العالم، فإن نسبة الدیون الحکومیة إلی الناتج المحلي الإجمالي أقل من الیابان والولایات المتحدة علی سبیل المثال، مما یعید التأکید على الأذى البالغ لديون الشرکات، وقد تكون الخصخصة أحد الحلول الممكنة.
من المفهوم أن نرى الولايات المتحدة من بين أول عشرين دولة مديونة من حيث نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، نظراً لأنها تطبع العملة التجارية الرئيسية في العالم. ولكن حالة اليابان التي تحتل المرتبة الأولى بين الدول العشرين الأكثر مديونية أكثر غرابة وتعقيداً.
إلى جانب احتياطيات العملات الأجنبية وصندوق الثروة السيادية الضخم، لا تملك اليابان اليوم إلا إجراءات محدودة لتحفيز النمو.
وعلى الرغم من أنها يمكنها أن تخفض ضريبة الاستهلاك لزيادة الاستهلاك الأسري، فإن السؤال هنا هو عن مدى الازدياد المطلوب في الاستهلاك المحلي كي يصل إلى مستوى يمكّنه من إثارة التضخم ووضعه على السكة الصحيحة نحو تحقيق الهدف المطلوب الذي يبلغ نسبة 2 في المائة. والسؤال الآخر هو: هل يستطيع “البنك المركزي” بعد ذلك أن يستمر في فورة شراء أصوله الحالية – التوازن الكلاسيكي بين الإيرادات الحكومية مقابل الإنفاق؟
وكما هو الحال في أوروبا، تحمل شيخوخة السكان في اليابان في طياتها المزيد من المشاكل المستقبلية.
وختاماً، يبدو أن البلدان التي تتمتع بنمو مرتفع وبإمكانياتٍ مستقبلية للمزيد من النمو يمكنها السيطرة على دينها المحلي، وتتمتع بتوازنٍ أسري مستقر، ووفرٍ إجمالي معتدل كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، وصافٍ إيجابي لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر؛ وأسعارِ فائدة أعلى.
وطالما أن “مجلس الاحتياطي الفدرالي” يحافظ على رفع أسعار الفائدة، فمن الممكن افتراضياً أن تنتقل الاستثمارات من الاقتصادات الناشئة إلى اقتصاد الولايات المتحدة.
لكن ذلك ليس مضموناً، خاصة وأنه ما يزال هناك شوط كبير كي تتناسب معدلات نمو الولايات المتحدة مع معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي في أي بلد في قائمة العشرين آنفة الذكر. كما ينبغي علينا ألا نُغفل دور تحسُن البيئة الاستثمارية أيضاً في تلك البلدان، مما يُفسح المجال أمام استثمارات كان يستحيل تصورها من قبل.
الفكرة الأخيرة التي أريد أن أترككم معها هي: ما الذي يدفع النمو في بابوا غينيا الجديدة، التي احتلت المرتبة الأولى في قائمة أول عشرين بلد في نمو الناتج المحلي الإجمالي؟